الفن اللبيب في النصب العجيب

 

لقد صارت أزمة المواطن في البيع والشراء في أسواقنا مأساة حقيقية على وقت المواطن وقدراته المادية المتواضعة في غالب حالات شرائحنا الشعبية البسيطة في وطننا الغالي ، وتتكثف الأزمة وتتوضح حين يتوجه أحد المواطنين ساعياً لشراء حاجة أو غرض جديد لمنزله أو أطفاله أو لحاجة شخصية ضرورية فيقع في أزمة الدوران واللهاث المستمر ساعياً وراء السعر الحقيقي للبضاعة التي يود شرائها من خلال البحث والتمحيص في عشرات المحلات التي تبيع البضاعة المنشودة ومشرعاً كل خبرات الحوار والجدال للوصول إلى السعر الحقيقي لما يود اقتناؤه وإلاّ فإنّه سيقع في دائرة مرعبة نتيجتها هو أن يدفع سعراً قد يكون ضعفاً أو عدة أضعاف للسعر الحقيقي للبضاعة مقتطعاً بذلك من لقمة خبزه وخز أولاده .

 

لقاءات وإضاءات :

 

ولإلقاء الضوء وبطريقة أكثر وضوحاً كان لابدّ لنا من تقصي الآراء الحقيقية لدى عدة أطراف في أزمة نهب مدخرات الفئات الشعبية وتركها مأزومة في لهاث مؤلم يستنفذ رواتبها ومدخولها لتأمين حاجياتها البسيطة ، ولذلك كان لنا أولاً لقاء مع السيدة م . م . خضر التي تعمل مدرسة لمادة التاريخ في إحدى ثانويات دمشق والتي أشارت إلى علاقتها مع تلك الأزمة قائلة : " يذهب معظم الراتب لتامين احتياجات الأطفال من المأكل والملبس وخاصة أنّي مسؤولة من الناحية الأخلاقية تجاه أولادي والذي يجعلني مضطرة لتأمين احتياجاتهم ولو على حساب لقمتنا أنا وأبوهم ، والمشكلة هي حين تذهب لشراء أي قطعة ملابس أو أحذية للطفل فإنّك تصاب بالجنون عندما ترى ذلك التفاوت في الأسعار بين محل وآخر ، على الرغم من أنّ البضاعة متقاربة فتأخذ بهدر الوقت طويلاً في الدوران بين المحلات وفي النهاية تضطر توفيراً للوقت لأن ترضخ وتشتري لكي تعود للمنزل وخاصة أن العمل الصباحي يكون قد استنفد معظم الوقت ، والباقي منه هو للأطفال ، وإنّي حقيقة أصرف من دخلي ما لا يقل عن ثلثيه لشراء ألبسة وأحذية الأطفال وبعض الحاجات الأخرى الضرورية للظهور بمظهر لائق وليس الترف . " .

وعلى الطرف الآخر ، كان لنا لقاء مع أحد تجار سوق الحميدية والذي عرف طويلاً بمحافظته على سمعته وسلوكه الممتاز بين التجار أقرانه على الرغم من وضوح تدني العمل ووتيرته في محله .

وكان حوارنا مع التاجر م . ز . الخياط ، تاجر الملبوسات الجاهزة في سوق الحميدية والذي علّق على موضوعنا قائلاً : " إنّ المشكلة الأساسية تكمن في تفكك الروابط بين التجار الذين كانوا سابقاً يتفقون فيما بينهم على عدم العمل لأخذ رزق أي تاجر آخر وبحيث يكون هامش الربح معروفاً ومتفق عليه ، وبحيث تصبح الصفة الجيدة هي الجاذب للزبون وليس التنافس غير الأخلاقي ، وممارسة فن ( اللطش ) حيث يصبح لكل زبون سعر قد يصل لعدة أضعاف السعر الحقيقي .

و‘نّ عدم وجود رقابة على نوعية البضاعة ووضع معيار سعري لها من قبل وزارة التموين يجعل الكثيرين يبخسون البضاعة الجيدة سعرها بتقديم بضاعة مماثلة من ناحية الشكل ولكنها بمواد أولية سيئة ، ولذلك فإنّ سوية البضاعة الجيدة وبأي مهنة كانت أصبحت نادرة وكذلك أصبح التجار الذين يخشون على سمعتهم نادرين أيضاً . " .

 

أزمة مركبة :

 

وبالتأكيد فإنّ العوامل التي تشكل المكونات الأولية لتلك المشكلة هي عوامل متداخلة ومركبة بين الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والأخلاقي والإداري ، الضحية الأولى والأهم فيها هي الطبقات الشعبية البسيطة والتي أصبحت مذعورة في لهاثها اليومي لعدم السقوط في قعر الحاجة والفاقة والتي أصبحت أزمتها جرحاً مؤلماً ويومياً نشاهده بأكثر من طريقة ، ولذلك كان لابدّ لنا من أن نتساءل هو بعض النقاط التي تعتبر سهلة التطبيق وميسورة الهياكل التنفيذية ولكنها معطلة أو غير فعّالة في التنفيذ مع احترامنا لها .

الأولى : هي السياسة التسعيرية والرقابية في وزارة التموين ، هل هي موجودة ، ولماذا هي معطلة عن بعض البضائع كالأحذية مثلاً ، ولم هناك هذا التفاوت الكبير والمذهل في أسعار بعض البضائع الخاضعة للرقابة .

فهل المشكلة هي في القوانين أم في منفذيها ؟ 

والثانية : لم أهملت مؤسسات الشركة العامة لتجارة التجزئة وأصبحت مؤسساتها معتمة قليلة البضائع المعروضة والتي إذا عرضت فصارت بأسعار مرتفعة أيضاً ولم تعد كما كانت سابقاً مدخلاً ملائماً لتأمين حاجات ذوي الدخل المحدود .

ولا يمكن القول أن تجربة مؤسسات القطاع العام الاستهلاكية قد فشلت ، حيث أن الملاحظة الملموسة واليومية على الإقبال المنقطع النظير على مؤسسات وزارة الدفاع في المؤسسات العسكرية التي تبيع للأفراد المدنيين العاديين ، هي نقطة ضوء تستدعي التوقف عندها لإضاءة تلك التجربة التي يراد لها أن تخبو وتندثر .

وختاماً لابدّ لنا من إعادة التأكيد على أن أي جهد يستهدف حماية تلك الطبقات الوسطى ذات الدخل المحدود ، هو جهد يؤدي إلى حماية الوطن ، لأنّ التجربة التاريخية باختلاف الأزمنة والأمكنة وضحت أنّ من يعاني من الجوع والفاقة لا يمكن له أن يحمي وطنه من أي من التهديدات والشرور .

https://ar.academy.house/home  

Popular posts from this blog

أسباب وأعراض سرطان المرارة

أسباب وأعراض سرطان المثانة

أسباب وأعراض سرطان المريء

كتب – دار الأكاديمية

دراسات – دار الأكاديمية

حوارات – دار الأكاديمية

ترجمات – دار الأكاديمية

تدوينات – دار الأكاديمية

مرئيات – دار الأكاديمية